"إن الغاية من حروب الولايات المتحدة غير التقليدية هو استثمار نقاط الضعف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية لقوة عدوة, من خلال تكوين قوى مقاومة و دعمها لتحقيق أهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية...في المدى المنظور, ستخوض القوات الأميركية بشكل أساسي عمليات حربية غير نظامية."
هكذا يبدأ دليل الحروب غير التقليدية للقوات العسكرية الخاصة الأميركية, الموضوع في عام 2010. هذا الدليل هو وثيقة مؤقتة تم وضعها لتعريف الحرب غير التقليدية وما يتعلق بهذه السياسة من تناقضات .
معظمنا لم تتح له فرصة تصفح هذه الوثيقة المهمة التي تكشف كيف تخوض الولايات المتحدة حروبها. تلك الحروب السرية التي لم يقرها الكونغرس, و لا حتى سكان تلك الدول الذين ستسحق حيواتهم, وأجسادهم, نتيجة للتعليمات الواردة في هذه الصفحات.
يتصدر الدليل اقتباس عن الرئيس كينيدي في العام 1962, يتلخص فيه لب المعتقد الأميركي القائم على أحقية القوات الأميركية بالقيام بكل ما من شأنه خدمة الغايات الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأميركية, سواء كان ذلك بالاغتيال, التسلل, زعزعة استقرار أو تقويض نظام الحكم, من دون أي اعتبار لجهوزية الدولة المعنية, ذات السيادة, للتغيير أو رغبتها فيه.
" هناك نوع آخر من الحروب, أصله قديم و لكن شدته حديثة, ألا وهو الحرب عن طريق العصابات, القتلة, المتمردين, والمخربين. إنها الحرب بالكمائن بدلا من المواجهة, عبر التسلل بدلا من الهجوم. إنه النصر عبر تقويض العدو و إنهاكه بدلا من الاشتباك معه. حرب تترصد الاضطرابات."
الهدف: الشرق الأوسط
مهدت سياسة إدارة بوش الطريق للحرب الغير تقليدية, و ذلك باعتمادها مبدأ الضربات الاستباقية ضد الدولة قد تشكل تهديداً للمصالح الأميركية. وطبعاً لم تذكر تلك الإدارة أية معايير محددة لقياس حجم هذه التهديدات, ولم تشرح لماذا يتم تحميل مسؤولية مصالح أميركا التجارية و الأمنية و السياسية لشخص من خارج الولايات المتحدة.
تم تطبيق هذه السياسة من دون عوائق تذكر في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي, مما تسبب بنتائج كارثية. إن الهدف الرئيسي للحرب غير التقليدية هو الدول و المجموعات التي تقف في وجه النفوذ الأميركي في المنطقة, أي بشكل أساسي: محور المقاومة المؤلف من إيران, سوريا, حزب الله و حماس. و لكنها طبقت أيضاً, إلى حد ما, في أي دولة يكون لهذا المحور نفوذ فيها.
إن الجانب الأقبح للحرب غير التقليدية, بالإضافة إلى كونها خرقاً واضحاً للقوانين الدولية التي تفرض احترام سيادة الدول و وحدة أراضيها و الحياة الإنسانية و الملكية الشخصية...إلخ,هو الجهد الحثيث والمستشرس للتأثير نفسياً على الشعب وقلبه على حكومته. إن هذا الجانب بالتحديد من الحرب الغير تقليدية ينافي منظومة القيم لأي أميركي.
من بين حالات الفوضى الأقليمية والمحلية, قدمت الانتفاضات العربية في العام2011 فرصة للمضي قدماً في نشاطات الحرب غير التقليدية في الدول المعادية, سواء أكانت شعوب تلك الدول راغبة في تغيير النظام أم لا. الأمثلة الأوضح نلحظها في إيران وليبيا وسوريا, وجميعها كانت في السنة الفائتة أهدافاً للحرب غير التقليدية بدرجات متفاوتة, والنتائج كانت متفاوتة.
كان من المفترض أن يكون الرابع عشر من شباط نقطة البداية لضربة في إيران. و لكن الجمهورية الإسلامية كانت على أهبة الاستعداد نتيجة خبرتها المتأتية عن الحرب غير التقليدية التي شنت عليها بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية في العام 2009.
لقد شكل استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة التي تلت تلك الانتخابات, كأداة لتنسيق الاحتجاجات و نشر الروايات مناهضة للنظام, بداية لعهد جديد من ثورة الإنترنت على نطاق العالم. لم يضيع البنتاغون الوقت, وأعلن توسيع نطاق عملياته ليشمل الفضاء الافتراضي. كما زاد بشكل ملحوظ الميزانية المخصصة للنشاطات التدميرية على الشبكة الإلكترونية.
DARPA التي تحدثنا عنها في يونيو الماضي, أعلن السلاح التكنولوجي لوزارة الدفاع, المسمى اختصاراً داربا, عن برنامج تبلغ ميزانيته 42 مليون دولار يمكن الجيش الأميركي من " رصد وتصنيف وقياس ومتابعة تشكل وتطور انتشار الأفكار والمفاهيم" في الشبكة الافتراضية. وقد أسمت مجلة وايرد هذا البرنامج بآلة البنتاغون للبروباغندا عبر المواقع الإجتماعية, وذلك بسبب خططه القائمة على " نشر رسائل مضادة لتأثيرعمليات الخصم المرصودة." مما يسمح " باستخدام أذكى للمعلومات لدعم العمليات العسكرية" وتجنب النتائج غير المرغوب بها. سيسمح المشروع بأتمتة العمليات بحيث يتم "تحديد المشاركين والمستهدفين, وقياس آثار حملة الإقناع", وليتم بالمحصلة, تحقيق التسلل وإعادة توجيه الحملات المرتكزة على مواقع التواصل الاجتماعي وفقاً لما تقتضيه الحاجة.
يبدو أن حملة الحرب غير التقليدية على إيران قد اقتصرت على التخريب التكنولوجي, وعلى الاغتيالات والتسلل عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أما في ليبيا فإن الحملة ذهبت في اتجاه أكثر حدية. يختلف السيناريو الليبي طبعاً بأنه تم بغطاء من الناتو, بينما تولى العسكريون الأميريكون القيادة من خلف الستار. يضاف إلى ذلك أن النجاح واسع النطاق لعمليات الحرب غير التقليدية لا يرجع إلى القتال وجها لوجه, بقدر ما يرجع إلى اللجوء إلى الغطاء الجوي وإلى تبادل المعلومات الاستخباراتية حول الهجمات التي يقوم بهت ثوار ليبيون غالباً.
الهدف: تغيير النظام في سوريا
أماعمليات الحرب غير التقليدية في سوريا فهي مزيج من النوعين. ذلك أن قوة وشعبية الرئيس الأسد, التي تحدثت عنها السفارة الأميركية في برقية نشرتها ويكيليكس, اقتضت بدء نشاطات لتقويض هذه الشعبية قبل التدرج إلى سيناريو على الطريقة الليبية.
ويؤكد دليل الحرب غير التقليدية على ما ورد في برقية ويكيليكس, من ضرورة اقتناص "الفرص" لكشف "نقاط ضعف" النظام السوري ودفعه باتجاه صعوبات اقتصادية, وانقسام عرقي وطائفي, وخلاف بين أجهزة الأمن و الجيش. ويحث الدليل أيضاً القوات الخاصة على "استثمار نقاط الضعف السياسية والاقتصادية والعسكرية والنفسية للخصم."
ينعكس المشهد الديموغرافي السوري في الدليل: "في معظم السيناريوهات, تواجه حركات المقاومة شعباً فيه أقلية نشطة موالية للحكومة, تقابلها أقلية موازية تساند حركة المقاومة. ولكي تنجح المقاومة عليها أن تحمل الواقفين في الوسط من غير الملتزمين, على القبول بها ككيان شرعي. أحياناً,لا يحتاج التمرد المدعوم جيداً إلى أكثر من أغلبية سلبية ليستولي على السلطة."
و يبنصح الدليل ب "استخدام البروباغندا والجهود السياسية والنفسية, لخلق جو أوسع من عدم الرضى يضعف الثقة بالحكومة." و يجب أن يترافق تصعيد النزاع مع "تكثيف للبروباغندا بهدف تحضير الشعب نفسياً للعصيان."
البداية تكون بوجود "اهتياج" على نطاق محلي أو وطني, يرافقه تنظيم لحملات مقاطعة أو إضرابات أو أي نوع من النشاطات المعبرة عن عدم الرضى. و من ثم يبدأ " تسلل المنظمين و الناصحين الأجانب, والبروباغندا الأجنبية, والمال, والأسلحة والمعدات."
و في المستوى الثاني من العمليات, يتم تأسيس " منظمات مواجهة وطنية" كالمجلس الوطني السوري), و" حركات تحرر"( كالجيش الحر), من شأنها أن تستجر أقساماً أكبر من الشعب إلى قبول "ازدياد التخريب و العنف السياسي", وأن تشجع على تدريب " أفراد و مجموعات على القيام بأعمال تخريب في المدن."
أما عن كيفية وماهية استجابة الأغلبية غير الملتزمة, والسلمية ظاهريا,ً لعنف الجماعات المعارضة؟ فيقدم دليل الحرب التقليدية وسيلة سهلة لتلفيقها :
"إذا ردت الحكومة المستهدفة,فستستغل المقاومة النتائج السلبية للرد الحكومي من أجل استحواذ تعاطف و دعم شعبي أكبر, و ذلك من خلال التركيز على التضحيات و الصعوبات التي تتحملها المقاومة في سبيل الشعب. و إن لم ترد الحكومة أو كان ردها غير فعال, فبإمكان المقاومة البرهنة بذلك على فاعلية قتالها للعدو. بالإضافة إلى ذلك, يمكن للمقاومة إظهار تباطؤ العدو أو عدم قدرته على الرد على أنهما ضعف, مما سيقود إلى إضعاف معنويات قوات العدو و يوحي بقرب الهزيمة."
واليوم, مع وصول أوباما, تحولت سياسات بوش و أعيد توضيبها تحت مسمى "هيئة منع ارتكاب الفظائع" أو تحت مسمى " التدخل الإنساني", إلا أن الأهداف لم تتغير: زعزعة استقرار حياة الناس و الدول لخدمة المصالح الأميركية في السيطرة الاقتصادية و السياسية.
إن الحكومات العربية محقة حين تتحدث عن "مؤامرة أجنبية". إذ لم يعد هناك مجال واحد في الدول العربية الهامة لم تصل إليه "المصالح الأميركية": بدءا من المجتمع المدني "المسالم" المليء بالمنظمات غير الحكومية الممولة أميركيا, مروراً بأجهزة الاستخبارات والجيش التابعة لتلك الدول, ووصولاً إلى صفحات الفيسبوك للمواطنين العاديين.
وفي خضم هذه الانتفاضات المشتعلة في المنطقة, يتحول كل شعب عربي لا يغلق بابه أمام مخاطر التدخل الأجنبي إلى جندي يقاتل إلى جانب أعدائه في حرب غير تقليدية تشن عليه.
الغرب وتقنيات تشويه الأنظمة المتمردة: سوريا نموذجاً
أضحى الاغتصاب و التعذيب سلاحين أساسيين ضمن ترسانة بروبوغندا وسائل الإعلام الغربية. فالتقارير من منظمات مثل Human Rights Watch و مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، و التي تدعي توثيق اللجوء النظامي للتعذيب و الاغتصاب من قبل "أعداء" الغرب، أصبحت أمرا معتادا ضد من تختار الامبريالية الهجوم عليه. و قد رأينا استخدام هذه الادعاءات لمنح الشرعية للعدوان ضد العراق و ليبيا و الآن سورية.
كيف اصبحت سوريا ضحية لحرب البروبوغندا:
اللجوء الى أكاذيب التعذيب و الاغتصاب لأجل البروبوغندا يخدم عاملا محددا جدا، فهو يخلق بيئة تساعد على خلق الحرب عندما تنجح الحكومة بمقاومة كل المحاولات الأخرى الرامية للتدمير و زعزعة الاستقرار. و كحال حكومة القذافي قبل عام، تمكنت حكومة الأسد من البقاء في السلطة في وجه حرب دولية متعددة الجوانب شنت ضدها من كل الجهات.
سوزان رايس و هيلاري كلينتون و بقية مثيري الحرب الامبرياليين في واشنطن غضبوا من عدم سقوط الأسد بعد و الفشل التام لوكلائهم في الإرهاب. لذا لجؤوا إلى سلاحهم الأكثر فاعلية: الكذب. و كما رأينا مؤخرا في حالة مذبحة الحولة، شنت وسائل الإعلام الغربية، الناطقة ببروبوغندا الولايات المتحدة و الناتو، حملة إعلامية من الكذب لإقناع العالم بأن الأسد سفاح بلا قلب و لا إنسانية. و الادعاءات بأن القوات العسكرية السورية مسؤولة عن هذه المذبحة الرهيبة دحضت و فضحت مرات لا تعد، بشكل اضطرت فيه وسائل الإعلام الغربية إلى إعادة صياغة الرواية و تغييرها باستمرار في وجه أدلة تثبت العكس.
و في حال كانت الادعاءات حول الاغتصاب و التعذيب صحيحة فعلى الأرجح ارتكبت من قبل "المعارضة" الإرهابية المسلحة في سورية. و إذا كان علينا تصديق وجود شهود عيان على هذه الأفعال، كما ورد في مقالة Telegraph المذكورة أعلاه، عندها من الواضح أنها تمت على يد تلك الميليشيات التي لا ترتبط بالحكومة السورية و لا الشعب السوري و هي جزء من حملة تدمير عالمية. ففرق الموت، كحال سابقيها في وسط آسية و العراق، مدربة من قبل الغرب و وكلائه في الشرق الوسط لأن الامبرياليين يعلمون أنهم لا يستطيعون تنفيذ أجندتهم بطريقة أخرى.
من الضروري، و في الواقع من الأساسي، للولايات المتحدة و حلفائها شن حرب بروبوغندا. فمن غيرها، ربما أدت العقلانية و التفكير السياسي الصحيح إلى إبعاد الرأي العام عن الحرب و إعادته إلى فكرة أن سورية ملك للسوريين. و هذا التصور قد يخرج كل القطار المتجه نحو الحرب عن مساره، و يمنع السعودية و قطر و تركيا و الولايات المتحدة من فرض إرادتهم على الشعب في سورية و الاستمرار في سيطرتهم الامبريالية على المنطقة.