تتوالى يوماً بعد يوم الإشارات والإيماءات الإيجابية الصادرة عن الإدارة الأميركية تجاه قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية، لعل أبرزها الإعلانات المتكررة عن حوارات إيجابية تجري بين الإدارة الأميركية وبعض القوى الإسلامية،وتصريح وزيرة خارجية أميركا هيلاري كلينتون عن استعداد أميركا للتعامل مع الإسلاميين العرب .
المشترك بين كل هذه الإشارات هو الإغراء الذي تحمله لقوى الإسلام السياسي من إمكانية حصولها على دعم أميركي يساعدها على الوصول كلياً أو جزئياً إلى السلطة، مقابل صفقة سياسية استراتيجية، الأمر الذي يطرح العديد من الأسئلة، أولها: ماذا يريد الأميركيون من قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية؟ وماذا يمكن أن تكون عليه بنود هذه الصفقة؟ وهل قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية مستعدة لعقد هذه الصفقة؟ وما هي آثارها ونتائجها؟
في استعادة مكثفة لثوابت الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة العربية في يومنا الراهن، فإن الهدف المركزي لهذه الاستراتيجية ما زال كما كان على عهد جورج بوش الابن، هو بناء شرق أوسط جديد، تمزق فيه الأقطار العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية، الأمر الذي يدمر عناصر القوة العربية المستندة إلى هويتها القومية الجامعة، ويبرر وجود الكيان الصهيوني باعتباره دولة يهودية تتواجد مع مثيلاتها من الدويلات الطائفية والعرقية والمذهبية المراد إقامتها. كما أن الوسيلة الأساسية المعتمدة أميركياً لبلوغ هذا الهدف، هو نشر الفوضى الخلاقة، وهو التعبير الدبلوماسي المخفف عن استراتيجية تفجير الصراعات الدموية بين مكونات الأمة، وإشاعة الاحتراب الداخلي فيما بينها.. فما هو الدور الذي تسعى أميركا لأن تلعبه قوى الاسلام السياسي، التي قد تنطلي عليها الإغراءات الأميركية في خدمة هذه الاستراتيجية؟
في مراجعة لوقائع من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، ولوثائق ودراسات أميركية، فإن المتابع يستطيع أن يستخلص أربع مهام تتوقع الإدارة الأميركية من قوى الإسلام السياسي أن تلعبها لحساب مخططها في إقامة شرق أوسط جديد .
أولها: أن تتولى هذه القوى إطلاق حملة عداء للعروبة كهوية وانتماء، بدعاوي الإسلام، وإعادة بعث الخطاب التناقضي بين العروبة والإسلام، وترجمة ذلك عملياً بالتصدي لكل توجه تكاملي أو تضامني أو توحيدي بين العرب، مقرونة بإطلاق هجمة على كل توجه عروبي وقواه الشعبية .
ومما يعزز التوجه الأميركي لاستخدام قوى الإسلام السياسي في حربها على العروبة، أن سوابق تاريخية أكدت أن بعض الإسلاميين مستعدون لأداء هذا الدور. ففي الستينيات، سعت أميركا لمواجهة حركة التحرر القومية العربية بحلف إسلامي يضم إيران الشاهنشاهية، وتركيا الأطلسية، وفي تلك المرحلة أيّدت بعض الحركات الإسلامية هذا السعي، ووافقت عليه.. وإذا كانت أميركا تسعى لبعث هذه التجربة بصيغة منقحة، فإن السؤال: هل تجدد بعض قوى الإسلام السياسي انخراطها فيه، أم أن هناك تغييراً في الرأي والنهج؟
ثانيها: أن يشكل هؤلاء الإسلاميون فزاعة لكل العرب غير المسلمين، يشعرونهم بالخطر على الوجود والدور في إطار الكيان الوطني الموحد، ويثيرون بينهم كل المخاوف، لدفعهم إلى المطالبة بكيانات مستقلة، أو بغية إيجاد مناخات تتفجر فيها فتن طائفية تتيح للقوى الاستعمارية أن تتدخل فيها، تحت ذريعة حماية الأقليات .
وفي نظر الأميركيين، فإن تجربة حسن الترابي، الذي اتبع نهجاً في السودان ساهم في تمزيق قطر عربي كبير، تُمثِّل سابقة لنهج تلعب فيه قوى ترفع رايات الإسلام دوراً أساسياً في إنجاح التقسيم .
فحسن الترابي تحالف مع جعفر النميري في مواجهة التيار العروبي في السودان، إثر انحياز الأخير لنهج أنور السادات، وتأييده لاتفاقية كامب دايفيد، وعزز قواه أثناء وجوده في السلطة، حتى تمكّن من الاستئثار بها والإطاحة بالنميري، ليطرح شعارات بناء دولة إسلامية وتطبيق الشريعة.. فكانت هذه السياسات والشعارات الذريعة التي تلقفتها قوى الانفصال (المحتَضَنة أساساً من القوى الاستعمارية والعدو الإسرائيلي) لكي تُصعّد حربها الانفصالية، بحجة حماية الأقليات، وصيانة حقوقها، والتي انتهت بتمزيق السودان .
إن الدلائل على سعي أميركا لتعميم التجربة "السودانية الترابية" في أكثر من قطر عربي، خصوصاً في مصر وبلاد الشام والعراق، عديدة، لعل أبرزها الاحتضان الأميركي لمجموعات قبطية انفصالية تنادي بدويلة قبطية في مصر، في نفس الوقت الذي تغازل قوى الإسلام السياسي المصري، الأمر الذي يطرح مجدداً السؤال: هل مستقبل قوى الإسلام السياسي ينحصر في أن تلعب دور الفزاعة؛ خدمة للمخطط الأميركي؟
ثالثها: أن يكون الإسلاميون عامل تفجير لصراع مذهبي، تحديداً سني - شيعي، ليس في المنطقة العربية فحسب، إنما على امتداد العالم الإسلامي كله .
فثمة سمة مشتركة بين كافة قوى الإسلام السياسي، وهي أنها وإن رفعت رايات الإسلام، إلا أن كل واحدة منها تتسم بطابع مذهبي محدد، ومن هنا فإن حركتها السياسية وتنافسها يوفّر، بإرادة منها أو بغير إرادتها، مناخات تعبئة مذهبية. فإذا اقترنت تلك التعبئة باستخدام وسائل عنفية من قبل المتشددين والمتطرفين من كل المذاهب، فإن ذلك يؤدي بالضرورة إلى تفجير صراعات مذهبية .
كما أن أميركا والعدو الصهيوني يدركان معاً أن صراعاً مذهبياً، لاسيما بين السنة والشيعة، سيُغرق العالم الإسلامي في فوضى مدمرة، تطمئن فيها "إسرائيل" على وجودها، ويفتح أمامها كل الأبواب لتتدخل في تغذية هذه الصراعات، وإدارتها واستثمار نتائجها، فهل ستقبل قوى الإسلام السياسي أن تعمّ تجربة بعض القوى التي ترفع شعارات إسلامية في العراق، والتي عملت برعاية قوات الاحتلال، وبالتنسيق معها وما تزال، لتفجير حرب سنية شيعية بين أبناء الأرض الواحدة والإيمان الواحد؟
أما رابع المهام التي تسعى أميركا لتكليف القوى الإسلامية بالقيام بها، فهي تعميم التجربة التركية الأردوغانية التي امتدحها جورج بوش الابن عام 2004، واعتبرها النموذج الإسلامي الذي ترحب أميركا بالتعامل الإيجابي معه لثلاثة أسباب: أولها أنها ملتزمة بالديمقراطية، وثانيها أنها خاضعة لحلف شمالي الأطلسي، وملتزمة بكل توجهاته، وأخيراً لأنها على علاقة طيبة وتطبيعية مع الكيان الصهيوني .
فأميركا لا يزعجها أن تقتصر "إسلامية" اردوغان على ارتداء زوجته للحجاب، طالما أن التزامات تركيا تجاه حلف شمالي الأطلسي مستوفاة، والاتفاقيات العسكرية والأمنية والاقتصادية مع "إسرائيل" محترمة ..
ومرة أخرى يُطرح السؤال: هل سترفض القوى الإسلامية أن تدفع ثمن الرضى الأميركي عنها التفريط بالثوابت الوطنية والقومية والإسلامية؟
بعض المراقبين "المتشائمين" يرون أن الصفقة قد أُبرمت بين بعض أطراف الإسلام السياسي وأميركا، وكانت تركيا الوسيط، أو لنَقُل "السمسار"، والأدلة التي يستندون إليها عديدة، منها موقف القوى الرافعة لألوية الإسلام السياسي في العراق، والمنخرطة كلياً في الاستراتيجية الأميركية، والتي لم يصدر أي موقف ناقد لها من أي طرف سياسي إسلامي، سواء كانت سُنية الطابع أو شيعية .
ومنها أيضاً تصريحات فيلتمان؛ المدير التنفيذي لمشروع الشرق الأوسط الجديد في الإدارة الأميركية، حيث قال إن أميركا توافقت مع الإخوان المسلمين في مصر على عدم المس باتفاقية كامب دايفيد.. ولم يصدر أي تصريح أو بيان ينفي هذا الكلام .
ومنها أيضاً، الحلف الذي جمع بين الإخوان المسلمين في سورية، وأفراد معروفة ارتباطاتهم بدوائر أجهزة المخابرات الأطلسية، في إطار المجلس الاسطمبولي المتحمس جداً لتدخّل أطلسي في سورية .
على أن في مواجهة الجناح المتشائم، ثمة قطاع من المراقبين ما زال يرى أنه من المبكر إصدار حكم نهائي حول السعي الأميركي لغواية قوى الإسلام السياسي، وهذه الفئة من المراقبين "الانتظاريين" ترى المؤشرات السلبية، لكنها في الوقت نفسه تأخذ في عين الاعتبار ثلاثة عوامل ترى أنه لا يجوز إهمالها:
الأول: أن قوى إسلامية عديدة اتخذت في العقدين الأخيرين مواقف واضحة ضد أميركا و"إسرائيل"، وفي مراجعة سريعة للبيانات الصادرة عن المؤتمر القومي الإسلامي، الذي شكّل ساحة لقاء بين قوى قومية وإسلامية عربية، فإننا نجد أن المواقف المعلنة، تشكّل إحراجاً لأية قوة تسعى للخروج عليها، أو انتهاج سياسات تناقضها.
الثاني: حتى ولو تجرّأت أطراف إسلامية على انتهاج خط نقيض لما كانت تعلنه خلال عقدين من الزمن، فهل تستطيع هذه الحركات أن تحافظ على وحدتها الداخلية؟
لقد دفعت حركة الإخوان المسلمين سعيها وراء مصالحها بعد ثورة 25 يناير في مصر، ثم أسسوا أحزاباً خاصة بهم، فهل ستتحمل الحركات الإسلامية خضات مشابهة، وفي قضايا أخطر واهم شأناً إذا ما عقدوا صفقة مع الأميركيين؟ فإذا أضفنا إلى تجربة الإخوان المسلمين في مصر تجربة الحزب الإسلامي في العراق، الذي انفضت قواعده عنه إثر انخراطه في العملية السياسية التي نظمها بريمر في العراق، فإن التساؤلات حول مدى قدرة هذه الأطراف على إبرام صفقة مع الأميركيين، مهما كانت غواية السلطة، تصبح مشروعة.
والثالث: إن تعددية الجماعات الإسلامية الناجمة عن خلافات مذهبية وفقهية وسياسية، ستجعل من موافقة بعض الأطراف على الطلبات الأميركية عرضة للنقد والتشكيك والتهجم من جماعات أخرى، وعلى الأرجح أن يتصاعد هذا التشكيك والاعتراض بخلفية من فكر تكفيري، ليفجّر صراعات إسلامية - إسلامية، تتخذ أشكالاً عدة.. فهل تقدر هذه الحركات على تحمّل نتائج مثل هذا الصراع إذا ما توفّرت أسبابه وتأمّنت مستلزماته؟
لهذه الأسباب الثلاثة، فإن بعض المراقبين يميلون إلى الانتظار قبل إصدار حكم نهائي، لكن تبقى حقيقة، وهي أنه مهما تعددت الاجتهادات والتخمينات، فإن الجواب اليقين على كل ما يُكتب ويُقال هو عند القوى الإسلامية، التي وحدها مطالبَة بإعلان مواقف صريحة وواضحة من محاولة الغواية الأميركية، ومن مشروع الشرق الأوسط الجديد، ومن موقفها الحاسم من قضايا الأمة التي اهملوها، ومن التحديات التي تواجهها.
تعليقات
إرسال تعليق