احبابي في الله...إن من اخطر التحديات التي تواجهنا هي بالفعل الثورة المعلوماتية التي تخترق أساسياتنا وتحدث تغييرات هائلة في حياتنا يمكن أن تخلف فينا آثارا سلبية كبيرة تعصف بحياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية لأنها تحدث تحولات مادية هائلة في كل نواحي الحياة اليومية مع عجز واضح عن الاستيعاب الواعي لحركتها الاندفاعية ودمارها الاخلاقي والاستعباد العقلي الذي فرضته بهذا العالم الافتراضي..
فقيام الأمم وقدرتها على النهوض يعتمد أساسا على مدى قدرتها على إيجاد التغييرات اللازمة لتطوير حركتها وتطورها وعلى نوعية استجابتها للتغييرات الخارجية التي تهب عليها من جهات أخرى وتستهدفها، لذلك فان الأمم التي لا تستجيب للتغيير تحكم على نفسها بالموت... وفي هذا الصدد يرى الإمام الشيرازي بان المجتمع الراكد هو الذي يقف في مكانه بدون تجديد حيث يركد كل شيء ويسير الزمان ببطء وتخلو الحياة من التجدد، أما المجتمع المتصاعد فلابد أن يكون التصاعد من ذاته.. وهذا هو اخطر التحديات التي تواجه الأمم الساكنة التي لا تستجيب لأعاصير التغيير الواردة عليها لتصبح مفتوحة يهب عليها الدمار فيجتثها من أسسها فتفقد هويتها وروحها ويشكل منها مزيج من لوحة رمزية غامضة لا يفهمها حتى من رسمها، وهذا ما هو حاصل اليوم، حيث أصبحت أبوابنا مشرعة للأعاصير العاصفة علينا فاخترقت ثقافتنا وأجيالنا واصالتنا لنصبح مجرد هامش ضحل نقتات فيه من أفكار الآخرين ونعيش على أمجاد انتصاراتهم ونصفق لابتكاراتهم...
الاستعباد في العالم الافتراضي الزائف..
تتنوع الآثار السلبية للثورة المعلوماتية بتنوع أدواتها واختلاف أهدافها ولكنها تسير كلها في إطار واحد وهو تأسيس بناء حضاري زائف يعتمد على وجود المظاهر والقشور مع إفراغ الجوهر الحقيقي للإنسان روحا وعقلا وأخلاقا... فمن هذه السلبيات...الواقع المزيف...
من المفترض أن يكون دور المعلومات هو إيصالها للفرد لتنمية معارفه وتطوير حياته تطورا متناسقا ومتكاملا لكن ما يحدث في ضمن هذه الظاهرة أن المعلوماتية تحولت إلى سوق تجاري يهدف الى بيع اللهو والمتعة والرفاهية والفساد للناس وان كان ذلك يؤدي إلى تزييف الواقع وجعل الوهم واقعا ورسم عالم خيالي يخوض فيه الناس أحلامهم ومتعهم وهم ينتشون بمتعة التخدير والهروب من الواقع... ومع انتشار ما يسمى بالواقع الافتراضي Virtual Reality أي واقع هو من صنع الخيال ولا أساس لوجوده في الواقع الحقيقي فبوسع المنتفعين بهذه الثورة أن يتلاعبوا مع الصور وبالتالي مع الحقائق وان يصطنعوا صورا للواقع لاوجود لها مما يمكنهم التلاعب بمقدرات عالم المهمشين الأميين الملفوظين من عالم ثورة المعلومات... وعندما يتحول العلم إلى مجرد سوق يهدف إلى الربح فقط فانه يصبح خطرا على البشر لأنه يستخدم العلم لتضليل العالم بأي صورة كانت...إذ تهدف طبقة الواحد بالمائة من سكان العالم التي تمسك بمقاليد الأموال والإعلام إلى تسويق وبيع كل شيء بدءا من السلع ومرورا بالأشخاص وانتهاءا بالأفكار، إنها تخلق المفاهيم وترسم الصور وتسمى صانعة التماثيل والصور، ويجري بيع أشباه المنتجات وليس المنتجات الحقيقية للناس وصورا للأفكار والتشريعات وليس التشريعات الحقيقية منها وكذلك أشباه السياسيين وليس الأشخاص الحقيقيين لهؤلاء السياسيين... وهم لم يتوقفوا عند تسويق المتعة واللذة بل دخلوا إلى أفكار ونفوس البشر لخلق أوهام وقيم تتناسب ومنافعهم، فالخطر الكامن في العولمة هو في قوة وسائلها وتأثيرها في الأجيال الناشئة منذ نعومة أظفارهم واعتمادهم على أقوى طرق التأثير الفنية في الحركة والصوت والصورة لدرجة حولت أبطال الأفلام الأمريكية ولاعبي الكرة والتنس وعارضات الأزياء إلى رموز وأبطال الجيل الناشئ الذين اعتبروا هذه المظاهر هي الحضارة والتطور وطريق النجاح....
وبهذا يرسم لنا تجار المعلوماتية الواقع الوهمي الذي يسير عليه أبناءنا وينهلون من نبعه الفاسد أفكارهم وقيمهم الأخلاقية والسلوكية فهل تستطيع الأمة يوما ما في القريب أن تمتلك أصالتها وتؤسس نهضتها أم أنها ستصبح مجرد جزء من ذلك القطيع الالكتروني الذي يدجنه ملوك الغرب؟؟؟ لا شك أن هذا يعتمد على مدى وعينا وفهمنا للمتغيرات القادمة علينا...
استبداد معلوماتي ودكتاتورية جديدة
منهج المعلوماتية الحالية ما هو الا لترسيخ الاستبداد والديكتاتورية يبقي التنافس منحصرا في يد قلة قليلة من ملوك المال والاعلام والمعلومات...وتشير الأرقام إلى أن اندماج الشركات الكبرى وتكتلها يزداد يوما بعد يوم إلى الاحتكار المطلق للإعلام والمعلومات ..وهذا يقودنا إلى الاستنتاج إلى أن العالم يتجه إلى مزيد من السيطرة المطلقة للأقلية المستبدة التي تتحكم بقرارات العالم الإعلامية والسياسية والاقتصادية حيث تتحكم بمصادر المعلومات من إنتاجها وصناعتها وتسويقها... لقد وصل تحكم ملوك المعلومات في سياسات العالم إلى حد صناعة الحروب وإسقاط الحكومات ونشر الفوضى في العالم فالمعلوماتية هي وسيلة بيد استعمار السوق للهيمنة على الثقافة وتصنيع الإيديولوجيا التي باتت تحملها نخبة كونية متجانسة تسعى إلى تنميط العادات والثقافات وطرائق العيش على نمط واحد تختزل الحريات إلى حرية التعبير التجاري وحقوق المواطن إلى حق التمتع بسيادة المستهلك وتعميم التوهم بان الوضع القائم هو سقف التطلع الإنساني ولم يعد هناك سوى خيار الرأسمالية القائمة... ويوما بعد يوم تتضاءل خيارات الفرد في الاختيار ويصبح عليه السير في اتجاه واحد فرضته عليه القوانين التي وضعها ملوك المعلومات في إطار لعبتهم الالكترونية باعتبارهم يحتكرون كل وسائل إنتاجها ومواردها، وتحكمهم في بناء نظام القيم والتفكير التي ترسم سلوك الفرد وشخصيته، فما يحتكرونه ليس البيانات نفسها بل اسلوب التفكير المعتمد والمقرر والمكرس رسميا أي تعريف أي شيء يكون معقولا أو مقبولا... فحكموا سيطرتهم على كل نواحي الحياة ومسخوا العقول وغسلوها بقيمهم المادية التي تعتمد على السلوك الإباحي المطلق واللذة المنفتحة دون وضع أي اعتبار للقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، وهذه الأحادية التي يفرضونها بوسائلهم القمعية غير المباشرة تسحق الثقافات الأخرى حتى لو أنتجت فقرا وبطالة وهوة ساحقة بين الطبقات...
من المفترض أن تساهم الثورة المعلوماتية في بناء الفكر الإنساني وتطوره الحضاري العام ولكن اتخاذها اتجاها سلبيا في تحقيق مآربها وضع هذه الثورة في طريق تهديد الوجود الإنساني الحقيقي وتحوله إلى مجرد وجود هامشي يعيش فارغا لا يفكر ولا يقرر ولا يشارك ولا يتعاون، انه مجرد حيوان يأكل ويشرب ويلبس ما توجه نحوه وسائل المعلوماتية... كل هذا لاشك انه سيقود إلى ترسيخ حالات ضحالة الفكر وتسفيه العقل وسلوك التفاهات في عالم سوف تزداد فيه الفوضى والعنف والفساد بعد زمن قد لا يرى فيه العالم القيم الأخلاقية لمدة طويلة... وكلما زادت ثورة المعلوماتية ازداد العالم قربا افتراضيا إلى بعضه ولكنه يزداد عزلة وغربة، وكلما يتصور انه عندما ينال المعلومات الوفيرة يزداد حرية يحس بالاختناق وان القوانين والقيود والعيون الإلكترونية تلاحقه عبر الأقمار الصناعية والهاتف والكومبيوتر حتى اصبح لا يملك أي إحساس بتفرده واستقلاليته الشخصية..
وبعد ان تحولت المعرفة إلى مجرد استعباد سياسي واستثمار تجاري ينتفع منه الرأسماليون لتضخيم أرباحهم مهما كانت الوسائل والنتائج وفي ظل هذه الرأسمالية النهمة يزداد الوضع خطورة إذ تتحول المعرفة إلى أداة تدميرية مهلكة كالتي اخترعت القنابل النووية والنيوترونية والهيدروجينية، وليست القنابل المعلوماتية اقل دمارا منها حيث يمكن الآن توجيه القنابل المالية المعلوماتية نحو أي بلد لتتركه خرابا ودمارا دون إطلاق رصاصة واحدة فأجهزة الكومبيوتر التي تعمل بشكل ذاتي تستطيع في غضون ثوان أن تسحب المليارات من أموال المضاربين العالميين لتترك البلد محطما مدمرا بعد أن تستنزف احتياطاتهم وتطيح بعملته الوطنية وتسبب إخفاقا في تسديد ديونه ليتم إخضاع هذا البلد في النهاية إلى حقيبة إنقاذ صندوق النقد الدولي.... ويمكن حينئذ أن تكتشف إن هذه الرأسمالية المسيطرة على تكنولوجيا المعلومات تسيطر على نواحي حياتك من جميع الجهات أليست هي التي تتحكم بأسعار النفط صعودا وهبوطا وهي التي انتجت ازمات بورصات الذهب والأسهم والعملات حيث تقوم بتحطيم أي مؤسسة اقتصادية تحاول أن تكون مستقلة عن تبعيتها كما حصل ذلك مع بعض البنوك المالية.
فالمعلوماتية تحمل أخطارها ضدنا عندما تسيطر على كل مفردات حركات اقتصادياتنا فنصبح رهائن في قفص ملوك المعرفة والمال ليفرضوا علينا أفكارهم وقيمهم وسياساتهم... ويمكن أن نرى كيف سيطرت ثقافة التلفزيون في حياة الناس فتحكمت بحياتهم بشكل مطلق وفرضت عليه شكل التفكير والأكل والشرب والملابس وأسلوب التربية.. وقد اصبح الإعلام المقروء والمبثوث فضائيا في بلادنا هو نسخة أخرى للإعلام الغربي حيث لا تجد في المعلومات المنشورة غير المتابعات السطحية وبرامج اللهو الخليع التي تزيد في سطحية التفكير وضآلة العقل وتحرفه عن التفكير في أساسيات الحياة وبالتالي تقتل فيه روح المعرفة والعلم والإبداع والمسؤولية وتحوله إلى فرد غير مسؤول عن أفعاله وغير مبال بالقيم والأخلاق والدين والقانون..
ناهينا عن توليد العنف وقيادة الغضب...اذ عندما يصبح هدف تجار المعلوماتية هو الربح والمنفعة الشخصية يصبح التنافس على إنتاج العنف والفساد والإباحية في اشده.. حيث تلاعب هذه القنوات الجشعة الدوافع الغريزية في الإنسان فتثيرها وتحركها لتزيد من أرباحها... ويوما بعد يوم تقدم هذه الأدوات أطباقا جديدة من حركات العنف والعدوان لتزيد من شهية البشر في الاعتداء على الآخرين وصناعة الحروب وتوليد الإجرام وقيادة طاقة الشباب...
ولعل من اسوأ تلك الاثار السلبية هي الاغتراب والعزلة في عالم افتراضي.. فعندما يشعر الفرد بانه يحصل على كل شيء يريده دون ان يكون في إطار الاجتماع والتكافل مع الآخرين فانه يبدأ بالانعزال تدريجيا عن المجتمع خصوصا ان أدوات المعلوماتية تقدم له واقعا اجتماعيا فرضيا يجتمع فيه الكترونيا مع الآخرين دون ان يكون هناك أي تواصل انساني حقيقي..
والخلاصة اننا نعيش ازمة تخلف حقيقية تضرب في أعماق البنية الفكرية والاجتماعية لتضع الأمة مفتوحة دون تحصن وحماية ذاتية أمام هبوب اعصار المعلوماتية التي تسوق المجتمع إلى:
1) استعباد ابناءنا واجيالنا عبر تصدير الافكار والقيم والعادات المعلبة لصنع طابور هائل من الشباب يتغنى بابطال الغرب الفاسدين ولتصبح افكار وقيم الشباب متشكلة بالصناعة الغربية، لقد وردّوا الينا حتى فرق عبادة الشيطان والشذوذ...
2) ضياع هوية الأمة في ظل الدعاية القوية التي تروج لها أدوات المعلوماتية من ضياع القيم الدينية واللغة والمفاهيم الاخلاقية، حتى أصبحت الهوية الامريكية هي الهوية الاكثر انتشارا ووجودا... والاخطر من ذلك ان تضيّع الأمة وجودها وتغترب عن نفسها فتصبح مهمشة تسيطر عليها الازدواجية والضبابية وتسحقها الانهزامية، كما هو حال المتغربين الذين اصبحوا بلا هوية.
3) ان يؤدي الاندماج العالمي الذي تطرحه ادوات المعلوماتية لعولمة العالم إلى الاندماج التام وضياع اصالتنا وقيمنا وأخلاقياتنا لانهم يريدون ان يصنعوا عالما تسيطر فيه قيمهم الاستهلاكية المنحطة بشكل مطلق...
4) ان تؤدي الثورة المعلوماتية إلى سحق اقتصاديات دولنا باعتبارهم يسيطرون على كل المعلومات الاقتصادية لذلك فقد يستخدمون هذا الأمر لضرب البنى الاقتصادية لدولنا وجعلها فقيرة لمزيد من التبعية السياسية والثقافية كما حصل ذلك في دول جنوب آسيا...
5) ان يؤدي الانفتاح الثقافي والاعلامي المطلق دون وجود تحصين ذاتي وعمل مضاد إلى نشر الاباحية والفساد الجنسي والشذوذ والمخدرات وهي أمور تروج لها أدوات المعلوماتية بقوة في بلادنا لتمييع اجيالنا وتفكيك الأواصر الأخلاقية والأسرية والاجتماعية...
ويبقى السؤال الرئيسي وهو كيف يمكن ان نواجه هذه التحديات الخطيرة هل بغلق ابوابنا وبناء أسوار حديدية شاهقة لصد الاثير وهو أمر مستحيل.. أم نقوم بايجاد عوامل وعناصر التحصن الذاتي والمناعة الداخلية عبر رفع مستوى الوعي والفكر أولا والقيام بعمل مضاد يستوعب هذه الادوات في إطارها الإيجابي في نشر قيم الخير والسلام والدين الذي كرمنا به الله؟؟؟؟
تعليقات
إرسال تعليق